الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.السفر لقضاء الحج. ثم مكثت بعد العزل ثلاث سنين واعتزمت على قضاء الفريضة فودعت السلطان والأمراء وزودوا وأعانوا فوق الكفاية وخرجت من القاهرة منتصف رمضان سنة تسع وثمانين وسبعمائة إلى مرسي الطور بالجانب الغربي من بحر السويس وركبت البحر من هنالك عاشر الفطر ووصلنا إلى الينبع لشهر فوافينا المحمل ورافقتهم من هنالك إلى مكة ودخلتها ثاني ذي الحجه فقضيت الفريضة في هذه السنة ثم عدت إلى الينبع فأقمت بها خمسين ليلة حتى تهيأ لنا ركوب البحر ثم سافرنا إلى أن قاربنا مرسى الطور فاعترضتنا الرياح فما وسعنا إلا قطع البحر إلى جانبه الشرقي ونزلنا بساحل القصير ثم بذرقنا ثم سرنا مع أعراب تلك الناحية إلى مدينة قوص قاعدة الصعيد فأرحنا بها أياما ثم ركبنا في بحر النيل إلى مصر فوصلنا إليها لشهر من سفرنا ودخلتها في جمادي سنة تسعين وسبعمائة وقضيت حق السلطان في لقائه وإعلامه بما اجتهدت فيه من الدعاء له فتقبل ذلك بقبول حسن وأقمت فيما عهدت من رعايته وظل إحسانه.وكنت لما نزلت بالينبع لقيت بها الفقيه الأديب المتفنن أبا القاسم بن محمد بن شيخ الجماعة وفارس الأدباء ومنفق سوق البلاغة أبي إسحاق إبراهيم الساحلي المعروف جده بالطوبجن وقد قدم حاجا وفي صحبته كتاب رسالة من صاحبنا الوزير الكبير العالم كاتب سر السلطان ابن الأحمر صاحب غرناطة الحظي لديه أبي عبد الله بن زمرك خاطبني فيه بنظم ونثر يتشوف ويذكر بعهود الصحبة نصه:ووصلها بقوله: سيدي شيخ الأعلام كنز رؤساء الإسلام مشرف حملة السيوف والأقلام جمال الخواص والظهراء أثير الدول خالصة الملوك مجتبى الخلفاء سر العلاء أوحد الفضلاء قدوة العلماء حجة البلغاء أبقاكم الله بقاء جميلا يعقد لواء الفخر ويعلى منار الفضل ويرفع عماد المجد ويوضح معالم السيادة ويرسل أشعة السعادة ويفيض أنوار الهداية ويطلق ألسنه المحامد وينير أفق المعارف ويعذب مورد العناية ويمتع بعمر النهاية ولا نهاية بآي التحيات أفاتحك وقدرك أعلى ومطلع فضلك أوضح وأجلى إن قلت تحية كسرى فى الثناء وتبع فأثرك لا يقتفى ولا يتبع تلك تحية عجماء لا تبين ولا تبين وزمزمة نافرها اللسان العريي المبين وهذه جهالة جهلاء لا ينطبق على حروفها الاستعلاء قد محا رسومها الخفاء وعلى آثار دمنتها العفاء وإن كانت التحيتان طالما أوجف بهما الركاب وقعقع البريد ولكن أين يقعان مما أريد تحية الإسلام أصل في الفخر نسبا وأوصل بالشرع سببا فالأولى أن نحييك بما حيا الله في كتابه رسله وأنبياءه وحيت به ملائكته في جواره أولياءه فأقول:السلام عليكم يرسل من رحمة الله غماما ويفتق من الطروس عن أزهار المحامد كماما ويستصحب من البركات ما يكون على التي هي أحسن من ذلك مقاما وأجدد السؤال عن الحال الحالية بالعلم والدين المستمدة من أنوارها سرج المهتدين زادها الله صلاحا وعرفها نجاحا يتبع فلاحا وأقرر ما عندي من تعظيم ارتقي كل آونة شرفه واعتقاد جميل يرفع عن وجه البدر كلفه وثناء أنشر بيدك البيضاء صحفه وعلى ذلك أيها السيد المالك فقد تشعبت علي في مخاطبتك المسالك إن أخذت في تقرير فضلك العميم ونسبك الصميم فو الله ما أدري بأي بيعة لفخرك تدفع الظلم وفي أي بحر من ثنائك يسبح القلم الأمر جلل والشمس تكبر على حلي وحلل وإن أخذت في شكاة الفراق والاستعداء على الأشواق اتسع المجال وحصرت الروية والارتحال فالأولى أن أثرك عذبة اللسان تلعب بها رياح الأشواق وأسلة اليراع تخضب مفارق الطروس بصبيغ الحبر المراق وغيرك من تركض في مخاطبته جياد اليراع في مجال الرقاع مستولية على أمد الإبداع والاختراع فإنما هو بث يبكي وفراق يشكي فيعلم الله مرضي عن أن أشافه من أنبائك ثغور البروق البواسم وأن أحملك الرسائل حتى مع سفراء النواسم وأن أجتلي غرر ذلك الجبين في محيا الشارق ولمح البارق.ولقد وجهت إليك جملة من الكتب والقصائد ولا كالقصيدة الفريدة في تأبين الجواهر اللائي استأثر بهن البحر قدس الله أرواحهم وأعظم الله أجرك فيهم فإنها أنافت على مائة وخمسين بيتا ولا أدري هل بلغكم ذلك أم غاله الضياع وغدر وصوله بعد المسافة والذي يطرق في سوء الظن بذلك ما صدر في مقابلته منكم فإني على علم من كرم قصدكم ومن حين استغربناكم بذلك الأفق الشرقي لم يصلني منكم كتاب مع علمي بضياع اثنين منهما بهذا الأفق الغربي اهـ.وفي الكتاب إشارة إلى أنه بعث قصيدة في مدح الملك الظاهر صاحب مصر وبطلب مني رفعها إلى السلطان وعرضها عليه بحسب الإمكان وهي على روي الهمزة ومطلعها: وبعث في طي الكتاب واعتذر بأنه استناب في نسخها فكتبت همزة رويها ألفا قال وحقها أن تكتب بالواو لأنها تبدل بالواو وتسهل بين الهمزة والواو وحرب الإطلاق أيضا يسوقها واوا هذا مقتضى الصناعة وإن قال بعض الشيوخ تكتب ألفا على كل حال على لغة من لا يسهل لكنه ليس بشيء وأذن لي في نسخ القصيدة المذكورة بالخط المشرقى لتسهل قراءتها عليهم ففعلت ذلك ورفعت النسخة والأصل للسلطان وقرأها كاتب سره ولم يرجع إلي منها شيء ولم أستجز أن أنسخها قبل رفعها إلى السلطان فضاعت من يدي.وكان في الكتاب فصل عرفني فيه بشأن الوزير مسعود بن رحو المستبد بأمر المغرب لذلك العهد وما جاء به من الانتقاض عليهم والكفران لصنيعهم يقول فيه: كان مسعود بن رحو الذي أقام بالأندلس عشرين عاما يتبثك النعيم ويقود الدنيا ويتحيز العيش والجاه قد أجيز صحبة ولد عثمان كما تعرفتم من نسخة كتب انشائه بجبل الفتح لأهل الحضرة فاستولى على المملكة وحصل على الدنيا وانفرد برياسة دار المغرب لضعف السلطان رحمه الله ولم يكن إلا أن كفرت الحقوق وحنظلت نخلته السحوق وشف على سواد جلدته سواد العقوق وداخل من سبتة فانتقضت طاعة أهلها وظنوا أن القصبة لا تثبت لهم وكان قائدها الشيخ الأبهة فل الحصار وجلى القتال ومحش الحرب أبو زكريا بن شعيب فثبت للصدمة ونور للأندلس فبادره المدد من الجبل ومن مالقة وتوالت الأمداد وخاف أهل البلد ورجع شرفاؤه ودخلوا القصبة واستغاث أهل البلد بمن جاورهم وجاءهم المدد أيضا ثم دخل الصالحون في رغبة هذا المقام ورفع القتال وفي أثناء ذلك غدروا ثانية فاستدعى الحال إجازة السلطان المخلوع أبي العباس لتبادر القصبة به ويتوجه منها إلى المغرب لرغبة بني مرين وغيرهم فيه وهو ولد السلطان المرحوم أبي سالم الذي قلدكم رياسة داره وأوجب لكم المزية على أوليائه وأنصاره.وبعده فصل آخر يطلب فيه كتبا من مصر يقول فيه:والمرغوب من سيدي أن يبعث لي ما أمكن من كلام فضلاء الوقت وأشياخهم على الفاتحة إذ لا يمكن بعث تفسير كامل لأني أثبت في تفسيرها ما أرجو به النفع عند الله وقد علمتم أن عندي التفسير الذي أوصله عثمان النجاني من تأليف الطيبي والسفر الأول من تفسير أبي حيان وملخص إعرابه وكتاب المغني لابن هشام وسمعت عن براءة تفسير للإمام بهاء الدين ابن عقيل ووصلت إلي براءة من كلام أكمل الدين الأشيري رضي الله عن جميعهم ولكني لم أصل إلا للبسملة وذكر أبو حيان في صدر تفسيره أن شيخه سليمان النقيب أو أبا سلمان لا أدري الآن صنف كتابا في البيان في سفرين جعله مقدمة لكتاب تفسيره الكبير فإن أمكن سيدي توجيهه لا بأس انتهى.وفي الكتاب فصول أخرى في أغراض متعددة لا حاجة إلى ذكرها ههنا ثم ختم الكتاب بالسلام وكتب اسمه محمد بن يوسف بن زمرك الصريحي وتاريخه العشرون من محرم سنة تسع وثمانين وسبعمائة وكتب إلي قاضي الجماعة بغرناطة أبو الحسن عل بن الحسن البني:الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسول الله يا سيدى وواحدي ودا وحبا ونجي الروح بعدا وقبربا أبقاكم الله وثوب سيادتكم سابغ وقمر سعادتكم كلما أفلت الأقمار بازغ أسلم بأثم عليكم وأقرر بعض ما لدي من الأشواق إليكم من حضرة غرناطة مهدها الله عن ذلك لكم يتضوع طيبه وشكر لا يذوى وإن طال الزمان طيبه قد كان بلغ ما جرى من تأخيركم عن الولاية التي تقلدتم أمرها وتحملتم مرها فتمثلت بما قاله شيخنا أبو الحسن بن الجياب عند انفصال صاحبه الشريف أبي القاسم عن خطة القضاء: ثم تعرفت كيفية انفصالكم وأنه كان عن رغبة من السلطان المؤيد هنا لكم فرددت وقد توهمت مشاهدتكم هذه الأبيات: إيه سيدي رضي الله عنكم وأرضاكم أطنبتم في كتابكم في الثناء على السلطان الذي أنم بالإعفاء والمساعدة على الانفصال عن خطة القضاء واستوهبتم الدعاء له من الأولياء ولله دركم في التنبيه على الإرشاد إلى ذلكم فالدعاء له من الواجب فيه استقامة الأمور وصلاح الخاصة والجمهور وعند ذلك ارتفعت أصوات العلم والصلحاء بهذا القطر لي ولكم بجميل الدعاء أجاب الله فيكم أحسنه وأجمله وبلغ كل واحد منكم ما قصده وأمله وأنتم أيضا من أهل العلم والجلالة والفضل والأصالة وقد بلغتم بهذه البلاد الغاية من التنويه والحظ الشريف النبيه لكن أراد الله سبحانه أن يكون لمحاسنكم في تلك البلاد العظيمة ظهور وتحدث بعد الأمور أمور وبكل اعتبار فالزمان بكم حيث كنتم مباه والمحامد مجموعة لكم جمع ثناه ولما وقف على مكتوبكم إلي مولانا السلطان أبو عبد الله أطال الله الثناء على مقاصدكم وتحقق جميل ودادكم وصحيح اعتقادكم وعمر مجلسه يومئذ بالثناء عليكم والشكر لما لديكم.ثم ختم الكتاب بالسلام من كاتبه علي بن عبد الله بن الحسن مؤرخا بصفر سنة تسعين وسبعمائة وفي طيه مدرجة بخطه وقد قصر فيها عن الإجادة نصها:سيدي رضي الله عنكم وأرضاكم وأظفركم يمناكم بذوائب مناكم أعتذر لكم عن الكتاب المدرج به هذا غير خطي فإني في ذلك الوقت بحال مرض في عيني ولكم العافية الوافية فيسعني سمحكم وربما كان لديكم تشوف بما نزل في هذه المدة بالمغرب من الهرج أماطه الله وأمن بلاد المسلمين.والموجب أن الحصة الموجهة في خدمة أميرهم الواثق ظهر له ولوزيره ومن ساعده على رأيه إمساكها رهينة وجعله في القيود إلى أن يقع الخروج لهم على مدينة سبتة وكان القائد على هذه الحصة العلج المدعو المهند وصاحبه الفتى المدعو نصر الله وكثر التردد في القضية إلى أن أبرز القدر توجيه السلطان أبي العباس تولاه الله صحبة فرج بن رضوان بحصة ثانية وكان ما كان حسبما تلقيتم من الركبان هذا ما وسع الوقت من الكلام ثم دعا وختم الكتاب.وإنما كتبت هذه الأخبار وإن كانت خارجة عن غرض هذا الكتاب المؤلف لأن فيها تحقيقا لهذه الواقعات وهي مذكورة في أماكنها فربما يحتاج الناظر إلى تحقيقها من هذا الموضع.وبعد قضاء الفريضة رجعت إلى القاهرة محفوفا بستر الله ولطفه ولقيت السلطان فتلقاني أيده الله بمعهود مبرته وعنايته وكانت فتنة الناصري بعدها سنة إحدى وتسعين وسبعمائة والله يعرفنا عوارف لطفه ويمد علينا ظل ستره ويختم لنا بصالح الأعمال وهذا آخر ما انتهيت إليه وقد نجز الغرض مما أردت إيراده في هذا الكتاب والله الموفق برحمته للصواب والهادي إلى حسن المآرب والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله والأصحاب والحمد لله رب العالمين.
|